محمد الموالي
الإعلام التجاري وتآكل المعايير الأخلاقية
ما إن دخل المال إلى ميدان الإعلام، حتى تبدّل وجه الرسالة، واختلّ ميزان القيم، فمن كان يومًا حارسًا للوعي، أصبح – في كثير من الحالات – تاجرًا في سوق العقول، يعرض “المعلومة” على رفوف الإعلانات، ويزن الحقيقة بميزان العائد المالي، لا ميزان الضمير.
تحت وطأة الإعلان، خفت صوت القِيَم، وسادت لغة الأرقام، صار الخبر لا يُذاع لأهميته، بل لإثارة الجدل، والضيف لا يُستضاف لخبرته، بل لجاذبيته أمام الكاميرا، والقضية لا تُطرَح لعدالتها، بل لما تحققه من “تفاعل”، وهكذا بدأت القيم تتآكل، شيئًا فشيئًا، في صمتٍ لا يُسمع، لكنه يُرى في كل شاشة، ويُقرأ في كل عنوان، ويُسجّل في أعماق النفوس، لقد غدت البرامج منصّات تسويقية، لا نوافذ تثقيفية، تحوّل الإنسان إلى “مُستهلك”، والمشاهد إلى “مُستهدف”، وتغيّرت لغة الخطاب من “الرسالة النبيلة” إلى “المحتوى القابل للبيع”.
وفي هذا المناخ، يُصبح الصادق أقلّ حضورًا من الجاذب، ويُقصى العميق لحساب السطحي، وتُمحى حدود المسموح والمرفوض، في ظلّ منطق يعلو فيه صوت السوق على صوت المبادئ، بل لم يسلم حتى “الخبر العاجل” من هذا التوظيف، فأصبح كثير منه آنيًا بلا عمق، مُفبركًا بلا تحقق، ويُستعمل أحيانًا كأداة لجذب الانتباه فقط، ولو على حساب الكرامة أو الحقيقة،وهنا يكمن الخطر: أن يُصبح الإعلام مسرحًا للإثارة بدل التوعية، وساحةً للمنافسة على الانفعال لا على الإحسان، أن تُقاس جودة المحتوى بما يُنتج من أرباح، لا بما يُخلّف من أثر.
إن القيم حين تُستبدل بالعوائد، والأخلاق حين تُسوَّى بخطط التسويق، يفقد الإعلام جوهره، ويتحوّل إلى سلعة، لا رسالة، لكن، أليس في السوق مكانٌ للشرفاء؟ أليست هناك نافذة، وإن ضاقَت، لمن يُقاوم هذا التيار، ويُعيد الإعلام إلى مكانته الأولى: مرآةً للوعي، لا مرآةً للرغبة؟
ذلك ما سنقف عنده في الفصول القادمة، حين نُناقش كيف يمكن للإعلام أن يُرمّم ذاته، ويعود إلى جذوره الأولى، حيث كانت الكلمة موقفًا، لا بضاعة.